نداءٌ صارخ للتحرّك: لماذا الإصرار على نهضةٍ للعاقورة؟

كثيرون قد يتساءلون اليوم: لماذا نختار كلمة «نهضة»، التي غالباً ما تُحيلنا إلى حقبة تاريخيّة أو موجةٍ ثقافيّة محدّدة، بدل أن نتحدّث ببساطة عن «تنمية العاقورة»؟

 الجواب واضحٌ وعميقٌ في آنٍ معاً: فالتنمية تحمل في طيّاتها منافع وظيفيّة، ولكنّها تفتقر أحياناً إلى عمق الرؤية والأبعاد الأخلاقيّة وطاقتها الثوريّة التي تُميِّز النهضة الحقيقيّة. إنّ طموحنا أكبر من مجرّد تحديثٍ أو تعديلٍ شكليّ؛ إنّنا نصبو إلى بعثٍ شاملٍ وجريء، يعيد الحياة لتراث العاقورة العريق ويفتح أمامها آفاقاً جديدة من الابتكار والتميّز.

من هنا تتحوّل «النهضة» إلى أكثر من مجرّد مصطلح تاريخيّ؛ إنّها نداءٌ للتجدّد، وإعلانٌ لمسارٍ خلاقٍ ورؤية استشرافيّة، تسعى لنقل الإرث المتوارث في العاقورة إلى محرّكٍ حيويٍّ للازدهار المعاصر. ولعلّ أوروبا خير شاهدٍ على عظمة النهضة، حين ارتبط الاسم بإنجازاتٍ استثنائيّة في العلم والفلسفة والفنون، تجسّدت في كاتدرائيّاتٍ شاهقة وجداريّاتٍ خالدة شكلت رموزاً حيّةً لحراكٍ ثقافيٍّ هائل. والأهمّ أنّ كثيراً من تلك الإنجازات برزت تحت رعاية رهبانٍ ورعاة مؤمنين، ومن المؤكد التزاوج الخصب بين الروحانيّة والابتكار.

ولبنان أيضاً عرف محطّاتٍ نهضويّةٍ خاصّة به، أسهمت في صياغة هويّة وطنيّةٍ توهّجت في بيروت المتألّقة وانعكست أصداءها في أماكنٍ تاريخيّةٍ كـجبيل، لتجد انعكاساتها في مدارس فكريّةٍ حوّلت الأنظار إلى دور لبنان الحضاريّ. ومع ذلك، بقيت القرى والبلدات التي تُشكّل عُمق الوطن في أحيانٍ كثيرةٍ خارج دائرة هذه التحوّلات الكبرى. ومن بينها، برزت العاقورة عاليةً على قمم الجبال، متمسّكةً بأهداب التقليد المارونيّ الكاثوليكيّ الذي احتضنته منذ قرون.

على مرّ الأجيال، حرص أهل العاقورة العظماء على صون العادات الأصيلة، إذ نقلوا القيم والمعارف المقدّسة من زمنٍ إلى آخر. ففي كلّ دربٍ ضيّقٍ تظلّل شرفاته أزهارً فواحة، وفي كلّ بيتٍ ريفيٍّ تتجوّل فيه الدجاجات بحريّة، وفي كلّ بستانٍ من التفّاح الصامد، تتجلّى حكاية أسلوب حياةٍ بسيطٍ لكنّه متجذّرٌ بعمق. غير أنّ تبدّل الأنظمة الاقتصاديّة العالميّة—التي باتت تتطلّب بنية تحتيّة حديثة واتصالاً رقميّاً وفرصاً استثماريّة متطوّرة—جعل الحفاظ على موارد العاقورة القديمة مهمّةً شاقّة. ومع شحّ تلك الأسس، لجأ كثيرون من أهل البلدة إلى الهجرة، بعضهم نحو مرافئ جبيل أو بيروت بحثاً عن مستقبلٍ أفضل، وآخرون تعدّوا حدود لبنان كليّاً. وهكذا، حمل المهاجرون في حقائبهم آمالهم الخاصّة، لكنّهم حملوا أيضاً نبض البلدة وروحها؛ إذ ما نفع الإرث إن غاب عنه أبناؤه؟

الاعتقاد بأن التراث والحداثة على طرفي نقيض هو مغالطة تخنق التقدّم الحقيقي. فروح الأمة لا تُصان بمجرد التمسك بالماضي، بل بالجرأة على إعادة تشكيله من جديد. وليس هناك شخصية تجسّد هذه الحقيقة أكثر من البطريرك إلياس بطرس الحويّك، بطريرك الاستقلال ولبنان الكبير، ومهندس سيادته، وصانع بعثه الوطني. ففي مذكرته إلى مؤتمر السلام في باريس عام 1919، لم يقتصر دوره على الدفاع عن الحق التاريخي للموارنة في جبل لبنان، بل رسم ملامح تحول جذري، نظام جديد رفع لبنان من أرض صمود إلى وطن للقدر. لم يكن حارسًا متحفظًا على الماضي، بل قائدًا لنهضة جريئة، زلزالًا مقدسًا ضمن للبنان الاستقلال والسيادة، حيث بقي شعبه متمسكًا بجباله بجذور امتدت عبر الدم والإيمان وسلسلة غير منقطعة من الصمود.

تقف الـعاقورة اليوم عند مفترق طرق مماثل. لا يكفيها أن تبجّل إرثها، بل عليها أن تبعث الحياة في نار هويتها عبر التجدد، الفعل، وتقرير مصيرها بنفسها. فمقدساتها، احتفالاتها، وتقاليدها الجماعية ليست بقايا عصر مضى، بل شرارات تنتظر أن تتقد من جديد. إن روح الحويّك، وإن غاب جسدًا، لا تزال تنادي بهذه النهضة. وكما حمى برؤيته الثاقبة جبل لبنان، على الـعاقورة اليوم أن تستجمع الشجاعة ذاتها—لتستعيد حيويتها، لتعيد أبناءها إلى أرض أجدادهم، ولتضمن أن إرثها لا يندثر في صفحات التاريخ، بل يبقى شعلة مضيئة تشهد على روحها التي لا تنكسر.

من هنا جاء مشروع نهضة العاقورة ليصدّ هذا الاندثار، ويعلن انبلاج عهدٍ جديدٍ واعد. فبدلاً من طرح القديم جانباً لصالح الحديث، يسعى المشروع إلى تمكين القديم وتحصينه عبر الحديث: تنشيط القطاعات الإنتاجيّة، وتحفيز السياحة الروحيّة والثقافيّة، وتطوير بنية تحتيّةٍ تحترم القيم المتوارثة وتتكيّف في الوقت عينه مع متطلّبات العصر. ليست هذه خطوةً بسيطةً أو محدودة، بل نداءٌ صارخ لاستعادة الدور التاريخيّ الذي عهدته العاقورة.

في سالف الزمان، يوم وقف رسولٌ متواضعٌ للإيمان يبشر أبناء جبل لبنان الفينيقيّين بالرسالة المارونيّة، كانت العاقورة في طليعة ذاك التحوّل المفصليّ. إذ اختار أهلها بشجاعةٍ أن يكونوا أوّل بلدةٍ في جبل لبنان المهيب تعتنق الإيمان المارونيّ، فغيّروا بذلك مصائرهم، وفتحوا درباً أمام كيان وطنٍ اسمه لبنان. واليوم، يعود أهل العاقورة العظماء مجدّداً إلى منعطفٍ مفصليّ. فهل نبقى متفرّجين على تناقص سكّاننا واندثار إرثنا، أم نستعيد ذلك العزم الذي حوّل بلدتنا يوماً إلى حصنٍ مارونيٍّ تاريخيٍّ رائد؟ باسترجاعنا صفة «أوّل بلدةٍ مارونيّةٍ في التاريخ» —وأوّل من حمل ذاك المشعل المقدّس—نفي بتراث أجدادنا ونمهّد الطريق لمن سيخلفنا؟

ويعني الالتزام بهذا النداء أن ننسج التكنولوجيا المعاصرة والبنية التحتيّة المتينة في نسيج العاقورة الأصليّ، ونبتدع سُبُلاً ماليّةً وإداريّةً ترسّخ العائلات في أرضها بدلاً من دفعها للهجرة. ويعني أيضاً إحياء روح الكرم التي عرفت بها العاقورة فيما مضى؛ فنصطحب زوّارنا عبر قممها الشامخة ودروبها الضيّقة المزيَّنة بالبيوت التراثيّة، ونستقبلهم بنكهة القهوة ورائحة البطاطا المحمّصة على شرفات البيوت، كما نرتّب مهرجاناتٍ عظيمة تلمّ شمل الأهالي وأهل الوطن في أفراحٍ تراثيّةٍ أصيلة—وذلك بالتوازي مع إطلاق مبادراتٍ ترنو آثارُها إلى جبل لبنان وسواه من الأصقاع.

ولا يجوز لنا أن نغفل أولئك الذين مضوا بعيداً: فمنهم من تحدّى الأمواج العاتية هرباً من المجاعات، فغدت العاقورة بالنسبة لكثيرين منهم مجرّد حكايةٍ تتناقلها الجدّات أو صورةٍ نسجتها مخيّلة الأسلاف. ومنهم من ارتقى الطائرات الحديثة بحثاً عن فرصةٍ أفضل، لكنّهم جميعاً حرصوا على إبقاء الروابط حيّةً في قلوبهم، مترقّبين اليوم الذي يكرّسون فيه معارفهم وثرواتهم لخدمة البلدة التي يعشقونها. وهكذا يمدّون جسوراً تربطهم بأرضهم الأولى، متعهّدين ألّا يضيع إرث العاقورة، كي تظلّ منارةً متوهّجةً في ذاكرة الأجيال.

هؤلاء أيضاً سيتجاوبون مع النداء الذي يتردّد صداه من أعالي العاقورة، وينساب مع منحنيات الطرقات، ويتمازج مع ضحكات الجيران المحتفلين بأجواء البلدة المستعادة. إنّ مشروع نهضة العاقورة يستشرف مستقبلاً نابضاً بالحياة، حيث تتعانق العراقة المارونيّة والتكنولوجيا الحديثة في سبيل ضمان غدٍ حافلٍ بالخير والرخاء.

واليوم، تلوح أمامنا مفترقاتٌ مصيريّةٌ لا مجال معها للتردّد: إمّا التوجّه نحو نهضةٍ حقيقيّةٍ تحافظ على مكانة العاقورة كمشعلٍ يستضيء به المارونيّون أينما كانوا، أو الرضوخ التدريجيّ لمصيرٍ باهتٍ يطوي أحلام أجيال.

نحن، أبناء العاقورة العظماء، نأبى أن نبقى مكتوفي الأيدي.

نحن، أبناء العاقورة العظماء، نختار البعث من جديد.

نحن، أبناء العاقورة العظماء، نختار جذوة إرثنا المتّقدة، لنزيدها اشتعالاً بقوّة التكنولوجيا ووحدة الصفّ.

ولنتذكّر دوماً أنّه لا يمكن للنهضة أن تتحقّق من دون الناس يداً بيد، وكتفاً إلى كتف.

نحن، أبناء العاقورة العظماء، سنعيد إشعال جذوة «نهضة العاقورة» وإعلانها للعالم. فالمشعل الذي أوقده الإيمان وحمله المؤمنون عبر القرون يدعونا اليوم للتقدّم بثقة، كي نبني مستقبلاً يليق بشجاعة أجدادنا وعظمة هذه الأرض التي ورثناها.

 

Previous
Previous

قانون المخاتير والمجالس الاختيارية

Next
Next

رؤية لولاية المجلس البلدي 2025-2031